قناة وكالة ويبنقاه على تلغرام

الفردانية السياسية وانهيار الأحزاب تحدي الديمقراطية في فرنسا المعاصرة

علمانية‍ فرنسا⁢ الدفاعية تحاول حماية قراءة خاصة ‍من الليبرالية، قراءة تتزايد هيمنتها يومًا بعد يوم في ​العالم.

وكالة مهر للأنباء – مجموعة دولية: الجمهورية الخامسة الفرنسية، التي تأسست عام 1958 ⁣على ⁢أنقاض الأزمات السياسية للجمهورية الرابعة وبهدف تعزيز سلطة ⁣السلطة التنفيذية وشخص ​الرئيس، تواجه الآن بعد مرور ​أكثر من ستة عقود​ أسئلة أساسية حول⁣ شرعيتها وتمثيلها ⁢السياسي ومشاركة الجمهور. هذا الهيكل‌ الذي صمم كرد فعل على عدم استقرار ​الأحزاب وعجز النظام البرلماني، تحول مع مرور⁤ الوقت إلى​ نظام شخصي محور القوة. ⁣بعضهم يرى فيه علامات على الاستبداد السياسي، بينما ⁣يعتبره ​آخرون نموذجًا للديمقراطية الحديثة. في هذه الأثناء، انحسار الأحزاب التقليدية وظهور حركات غير ‌منظمة وتراجع الثقة ‌العامة وتنامي الأجنحة المتطرفة كلها عوامل تثير التساؤلات.

يصف ⁢المحللون‌ الرئيس الفرنسي⁢ إيمانويل ماكرون بأنه أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في​ المشهد السياسي الفرنسي.

في ⁤حوار سابق​ مع⁤ الدكتور حجت الله أيوبي، ⁢أستاذ مجموعة ⁣الجامعات الإيرانية والباحث‌ البارز في الدراسات ⁢الفرنسية، حاول تفسير أسباب وكيفية التحولات السياسية ⁢والاجتماعية في ‌الجمهورية ‌الخامسة. الدكتور أيوبي الذي يتمتع بخبرة سنوات عديدة من العيش في فرنسا⁤ بالإضافة إلى خبراته الإدارية الأجنبية، ويشمل سجله التدريسي تاريخ الفكر السياسي الأوروبي، أشار خلال هذا اللقاء إلى عدم انتظام نظام الحزبين المهيمن شارل ديغول. النموذج الذي كان من المفترض أن يحافظ على استقرار⁢ الأحزاب الجمهورية ⁢الرابعة لكنه‌ الآن تحت ضغط⁣ مطالب‌ المشاركة التي يظهرها جيل القرن⁢ الحادي والعشرين.

وأضاف الدكتور أيوبي في جزء ​آخر من الحديث عن “العلمانية الدفاعية” للفرنسيين قائلاً إنها رد فعل ⁢تاريخي ضد عودة الدين والمعنى حتى في ⁤أشكال الغرب الجديدة⁤ التي تتجه نحو التشديد. ومن وجهة⁤ نظره ⁢فإن هيمنة النزعة المركزية العرقية الغربية آخذة في الأفول ويعتبر القرن الحالي -بتعبيره- “قرن التحديات”.

“عودة ​العواطف” تريد قرناً تُستبدل فيه العلاقات الإنسانية بجسور القوة والسلطة

هذا التصوير الخيالي الذي قدمته فرنسا اليوم يظهر بلداً يدّعي الديمقراطية ​من جهة، ⁢بينما يمارس الاستقطاب الدائم ويثير الشكوك حول ‌نواياه الحقيقية من جهة أخرى.

الجمهورية الفرنسية الخامسة (1958) تشكلت لتثبيت شرعية الرئاسة. هل هذا النموذج لا يزال متوافقاً مع ‍متطلبات الديمقراطية التشاركية اليوم أم أنه تحول إلى أداة للتمثيل ⁤الزائف؟

طوال تاريخها، سعت فرنسا لأن تكون رائدة بين دول أوروبا، مع اختلافات واضحة عن ⁤الآخرين. ⁤منذ ⁤ذلك الحين،‍ أصبحت منبعاً للعديد⁣ من المفاهيم ⁤والتحولات.⁤ خلال‌ الثورة الفرنسية، ادّعوا⁢ أنهم ​قدموا النظام الديمقراطي ‌للعالم.الذي كنا نراه هو أن الديمقراطية في إيران وأثينا قد اتخذت شكلاً مختلفًا. خلال ⁢الثورة الفرنسية، ‍ظهرت موجة ثورية في أوروبا، لكن هذا البلد‌ لم يتجه أبدًا نحو ديمقراطية حقيقية. حتى الجمهورية الأولى لفرنسا اشتهرت بأنها‌ جمهورية إرهاب وعنف، وشهدت⁤ أحداثًا دموية‌ في السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية. هذه التجربة⁢ جعلت الفرنسيين⁢ ينظرون ​إلى الجمهورية ⁣بشك.

ومن الأسباب الأخرى لهذا الأمر، الأفكار المتأثرة بفلاسفة مثل جان جاك روسو. كان يعتقد أن الأمة والإرادة الوطنية وحدة غير قابلة للتجزئة، وفي نظرية “الإرادة العامة”، أكد أنه عندما تتفق الإرادات⁣ الفردية معًا وتمثلها ممثلوها، ​تتشكل إرادة واحدة مستقلة. من وجهة نظره،‍ أي عمل يؤدي إلى ⁢تجزئة هذه الإرادة العامة يكون مرفوضًا. كان ⁣يؤمن بأن للإرادة العامة وللنخب المنفصلة​ عن الأنظمة التمثيلية مكانة مطلقة ومختلفة عن إرادة الشعب المجتمعة. هذه الفكرة مهدت الطريق للعديد من أعمال⁢ العنف ⁣وسوء⁢ الاستغلال السياسي.تزايدت الخلافات حول الديمقراطية والجمهورية في فرنسا.

لم تحظَ​ الديمقراطية بمكانة كبيرة ⁤في ⁣النظام الفكري الفرنسي. أطيح بالجمهورية الأولى بعنف، ثم أعاد نابليون بونابرت ⁢تأسيس الإمبراطورية، وبعده عادت الحكومات الملكية إلى الحكم. استمرت ​الجمهورية الثانية عامين فقط قبل أن تعود الإمبراطورية مرة أخرى. بعد سقوط الإمبراطورية الثانية بسبب الحرب، تحول النظام ​بالصدفة إلى⁣ جمهورية مجددًا،⁤ حتى تم⁣ إحياء نموذج شبه إمبراطوري مع انتخاب رئيس جمهورية ذي سلطات واسعة.

يمكن القول إن الفرنسيين جربوا ⁣الديمقراطية الحزبية في الجمهورية ⁢الرابعة. خلال 12​ عامًا، ⁢شهدنا تغير 20 رئيس وزارة وعدم استقرار حزبي وسقوط حكومات متعددة. بعد الحرب العالمية الثانية، تأسست الجمهورية الخامسة⁣ على أنقاض الجمهورية الرابعة. كان هدفها الرئيسي منع⁢ تكرار فوضى الجمهوريات السابقة. منذ ذلك اليوم، أصبحت الجمهورية الخامسة نظامًا فرديًا مواجهًا للأحزاب.

نتيجة⁣ لذلك، أصبح التمثيل الديمقراطي ⁢في فرنسا…تحولت⁤ الجمهورية الفرنسية إلى نظام رئاسي مفرط وقوة تنفيذية مسيطرة.الدستور الفرنسي الخامس عملياً ⁣حل محل البرلمان والأحزاب ​السياسية. ⁣بعد قرنين من الصراع بين البرلمان والسلطة التنفيذية، انتصر الجنرال ديغول بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبحت ⁣السلطة التنفيذية مهيمنة على البرلمان بينما اكتسب⁣ الرئيس ⁤صلاحيات‌ غير مسبوقة في أوروبا. حتى في 11 ⁢مملكة أوروبية، لا ⁣يملك أي ملك سلطة تعادل سلطة رئيس فرنسا.

يعين رئيس فرنسا الوزير⁣ الأول والوزراء، فيما​ لا يملك ⁣نواب المجلس حق الثقة. استدعاء الرئيس وحده في ⁤ظروف استثنائية شديدة ممكن، حيث⁤ يمكنه إعلان ‌حالة الطوارئ متى شاء واتخاذ ‌جميع القرارات ​دون ⁤قيود برلمانية. كما⁣ يحق له حل المجلس واللجوء إلى المجلس⁢ الدستوري الذي يصادق على قرارات المجلس تحت رئاسة فردية​ يعينها هو بنفسه.

في المشهد السياسي الفرنسي اليوم حيث الأحزاب التقليدية تتهاوى، أصبح الدور الفرديالسياسة (مثل إيمانويل ماكرون) كيف تُحلَّل؟ هل هذه العلامة عودة إلى نموذج‌ النخبة أم ‍تحوّل آخر في ماهية ‍السياسة؟

فرنسيون أرادوا أن يكون لهم زعامة في​ أوروبا، فاقترحوا ⁢نظام ديمقراطية تمثيلية.يعني أن يختار ⁢الشعب ‌ممثلين يقومون بتمثيلهم في البرلمان أو السلطة ⁤التنفيذية. لكن بعد‌ أن أسس ‍الجنرال ديغول الجمهورية الخامسة ضد الأحزاب، بدا وكأنه تجاوز التعددية الحزبية وشكل نظامًا ثنائي القطب حيث تناوب ‍تياران ⁣- اليسار واليمين – على إدارة الأمور.

ظلت السيطرة لليمين 23⁤ عامًا ⁣حتى وصل ميتران من اليسار إلى ​السلطة عام 1981 وبدأت فترة التعايش.

لكن اليوم، لم يعد هذا الثنائية تستجيب لحاجات المجتمع. في الماضي، ‌كان الناس يرحبون بتغيير السلطة أملاً بالتغيير، لكن منذ عشرينيات القرن العشرين توصلوا إلى نتيجة مفادها أن كلا التيارين أصبحا متشابهين.تستمر التحديات الجديدة في الظهور. بدون ترتيب، يشهد كل من المشاركة‍ والاعتماد على الأحزاب السياسية ⁣تراجعًا واضحًا.

في هذا السياق، أدت الفسادات المنتشرة التي تفاقمت بسبب غياب الشفافية المالية والأخلاق في السياسة إلى​ تقليص الثقة العامة. وبدون ترتيب، ⁣يواجه النظام ⁣السياسي الفرنسي ⁤تحديين رئيسيين:

  1. لم يعد النظام‍ التمثيلي يستجيب⁢ لتطلعات ⁢المواطنين، حيث‌ يشعر الناخبون بعدم وجود فرص حقيقية للمشاركة في عملية نقل السلطة. يعتقد “بيير بورديو” أن⁣ المجال السياسي ⁢أصبح منفصلًا عن المجالات الأخرى، والمصالح التي تُعرّف فيه‍ ليست بالضرورة مصالح عامة. هذا ‌الأمر يضع شرعية النظام السياسي موضع تساؤل.
  1. فقدت ‌الأحزاب ​التقليدية‍ مصداقيتها. المشاركة ‌السياسية التي كانت تتم سابقًا⁢ عبر الأحزاب والنقابات وصلت الآن ⁢إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. انخفض ‌تأييد الأحزاب التقليدية ⁢من ‍30% إلى 35% ليصل إلى 2% أو 3%.أما الأحزاب الجديدة مثل حزب ​”إيمانويل⁢ ماكرون”، فهي شخصانية‌ بالكامل ولا تمتلك بنى‌ تقليدية صلبة للأحزاب.

تختلف الأحزاب السياسية‍ في فرنسا.⁣ هناك أحزاب‍ مثل “فرنسا التي لا تُقهَر” و”رينيسانس” التي تُعتبر أيضًا أحزابًا شخصية.

في هذا السياق، رفضت حركة “السترات الصفراء”، وهي واحدة من ⁤أهم وأبرز‍ الحركات الاجتماعية الحديثة في فرنسا، ‍أي⁤ تدخل من‍ الأحزاب السياسية. ‍حاولت الأحزاب ركوب موجة هذه ‍الحركة، لكنها فشلت. يُطلق اليوم على مثل هذه الحركات اسم “حركة الخفيين” (Les Invisibles)، لأن الناس يشعرون‌ بأنهم لا يتم تمثيلهم‍ في الهياكل الرسمية. يعكس هذا الواقع أزمة المشاركة والديمقراطية في فرنسا وأوروبا.

تُعرف السياسة الداخلية ‌الفرنسية بمفاهيم مثل العلمانية والجمهورية‍ الصارمة. ​هل يتم تحدي هذه المفاهيم‌ اليوم​ أم أنها ما تزال ‍تشكل أسس هوية الجمهورية الفرنسية؟

يشير العديد من الباحثين إلى أن المجتمع الأوروبي دخل مرحلة جديدة. لم يعد النظام الطبقي⁣ القديم موجودًا، وأصبح مفهوم “الطبقة العاملة” بالكاد قابلًا ​للتطبيق.

تُشير⁢ الإحصائيات إلى أن العديد من العمال يُصوِّتون الآن للأجنحة المتطرفة.‌ أدى تراجع تصويت​ الطبقة العاملة وضعف الحركات العمالية إلى تحوّل في بنية هذه الحركات.

اليوم، نواجه حركات غير ‍منظمة وجماهيرية.⁤ فقد حلّت⁣ الاحتجاجات‌ التلقائية محل الحركات المؤسساتية؛ حركات تنشأ فجأة، دون قيادة⁢ واضحة، وتخرج مباشرة إلى الشوارع​ بدلاً من التنظيم عبر النقابات والأحزاب. نتيجة‌ لذلك، ⁣أصبحت الحركة التي‍ كانت ظاهرة استثنائية في أوروبا‍ جزءًا من الحياة السياسية. بينما أصبحت الأحزاب التقليدية حكومية لدرجة أنها ابتعدت عن المجتمع ⁣المدني ⁣ولم‍ تعد​ مرجعًا للناس.

مع تعزيز​ اليمين واليسار ‍المتطرف وضعف التيارات المعتدلة، هل⁤ يمكن القول ⁢إن الجمهورية الفرنسية دخلت مرحلة ‍من الاستقطاب الدائم؟ وما عواقب هذا الاتجاه على الاستقرار الديمقراطي؟

ترتيب القوىتغير⁤ المشهد السياسي في فرنسا حيث فقدت الأحزاب​ التقليدية نفوذها. الحزبان الكبيران⁢ في البلاد،⁣ “الاشتراكي” و”الجمهوريون”، أصبحا بلا تأثير واضح، ‍دون أن يعني ذلك اختفاءهما نهائياً. أحد أسباب ⁢هذا التراجع هو عدم القدرة على تقديم برامج جديدة للمجتمع، خاصة مع توجه⁤ أجنحتها نحو الوسط بشكل متزايد.

في الماضي، كان كل حزب يستند إلى قاعدة أيديولوجية وبيان⁢ واضح، لكن اليوم أصبحت الأحزاب أكثر ⁣تركيزاً على الشعارات الاقتصادية: دون رؤية واضحة، مجرد الاستجابة لمطالب الناس العاجلة وتحويلها إلى شعارات انتخابية. ​بما أن المطالب العامة متشابهة غالباً، فإن​ برامج الأحزاب أصبحت متشابهة أيضاً⁣ وتحول ⁣المشهد السياسي ⁢إلى فوضى. الأفكار العامة تظهر أن اليمين واليسار قد توصلا إلى ​نوع من الإجماع غير المكتوب: لا يميني يؤيد تحرير الاقتصاد بالكامل ولا يساري يريد‌ خصخصة​ مطلقة. هذا الغياب للتناقض…الإيديولوجيا، أحد العوامل الرئيسية في تراجع المشاركة السياسية. ⁤

النقطة الأخرى هي تزايد الشخصنة في السلطة. كانت المنظمات والهياكل ⁢الحزبية تتمتع بنخب⁤ قوية وممثلين⁣ ملتزمين بمبادئ ‍الحزب، لكن الوضع اليوم تغير. ‍أحد الأسباب ⁣هو أن الأحزاب أصبحت تعتمد على عدد المقاعد ⁤البرلمانية التي تحققها، مما يجعل كل نائب مصدرًا ⁢لشرعية ​حزبه. هذا الأمر يمنحهم​ نفوذاً ​أكبر تجاه الحزب‍ نفسه.

الانحدار في حدود العمل ⁣الحزبي حوّل⁣ العصر الجديد إلى عصر من الفردانية، حيث حلّ الفرد محل التشكيلات المؤسسية. في مثل هذه البيئة، يمكن لظهور ​شخصية‌ كاريزمية داخل الجناح اليميني أن يجمع حوله بسرعة أتباعًا مخلصين ويوحدهم تحت رايته.

النظام الرئاسي الفرنسي يعتمد تقليديًا على الشخصيات الكاريزماتيك: من “شارل ديغول” و”جورج بومبيدو” إلى⁢ “فاليري جيسكار​ ديستان”، و”فرانسوا ميتران”، و”جاك شيراك”. يمكن القول إن شيراك كان آخر رئيس جمهورية يتمتع بكاريزما واضحة.كانت فرنسا تعيش عهدًا ذهبيًا؛ ثم جاء بعد ذلك‍ رؤساء جمهورية لم يتمكنوا‌ شخصيًا من ملء الفراغ ⁤الذي ‍تركته الشخصيات البارزة السابقة. إذا وصل ⁢شخص مثل “دومينيك دو‌ فيلبان” ‍إلى الرئاسة⁤ في الانتخابات المقبلة، فقد ⁤يظهر كاريزما جديدة ويعود تيار الغولية – ‌الشيراكية إلى الواجهة. ⁣

في هذا التحول من التركيز على البنية إلى التركيز على الفرد، انتقل اليمين المتطرف أيضًا من الهامش إلى المركز. التيار الذي كان يُعتبر في الماضي مُعادٍ للنظام، أصبح​ الآن جزءًا من علاقات القوة؛ حيث تحولت صراعاته الخارجية إلى صراعات داخلية.‌ رغم أن اليمين ⁢المتطرف اليوم أصبح أكثر اعتدالًا مقارنة بالماضي، إلا أنه لا يزال يشكل خطرًا على الديمقراطية، خاصة أن فرنسا لم تجرب بعد حكم اليمين المتطرف. مع ذلك،​ قد ⁣يؤدي ظهور شخصيات مثل دو فيلبان إلى تحييد هذا الخطر واستيعاب‌ جزء كبير من ‍تيار اليمين ضمن إطار الجمهورية.مع تراجع حزب الرئيس…كيف ترون مستقبل النظام‍ الحزبي في فرنسا في ظل ‍صعود‍ حزب “رينيسانس” (النهضة) وإحياء التيارات المتطرفة؟ وما ⁢هي توقعاتكم للمشهد⁢ السياسي في ⁤الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ هل تعتبرون تحولًا​ نحو اليمين المتطرف احتمالًا جديًا؟

في الإجابة على هذا السؤال، لا ​بد من ‌الإشارة مرة أخرى إلى رغبة​ الفرنسيين في أن يكونوا نموذجًا وروادًا في ⁣أوروبا. ففي النهاية، حاولت المجتمعات⁤ الفرنسية الأخرى نظريًا التعايش مع الأقليات وقبولها كرمز للتميز والاختلاف إلى حد ما.‍ هذه الفكرة مقبولة في الثقافة الأنجلوسكسونية وكذلك في ألمانيا. لكن الأمر يختلف في فرنسا حيث​ يواجه ⁢نوعًا⁤ من المفارقة. ⁢فهناك شخصيات داخل الحكومة الفرنسية صادقت على تنوع الثقافات في منظمة اليونسكو ⁢كبديل للأمركة الثقافية، وأعتقد⁢ أن ذلك القرار كان ⁣جيدًا،​ إلا أن الشعب⁢ الفرنسي لا يتقبل التنوع الثقافي واتجه نحو الاندماج الثقافي.

منذ قرنين والفرنسيون يضربون على طبل الاندماج الثقافي، مما ⁤يعني أنه إذا ⁤أراد أحد أن يكون مسلمًا، فليكن مسلمًا فرنسيًّا…

الترجمة:

كان الهدف أن يذوب الجميع في ‍ثقافة الجمهورية والعلمانية واللائكية الفرنسية، لذلك كانت هذه سياسة تواجه اليوم⁤ الفشل. الصراع الذي نشأ بين الفرنسيين والمسلمين وما زال قائمًا ناجم عن هذه القضية⁤ بالذات. أراد الفرنسيون أن يندمج ⁤المسلمون في ثقافة اللائكية، وقد رفع بعض كبار الشخصيات⁣ في البلاد شعار “الإسلام الفرنسي”، لكن هذه السياسة لم تنجح ويمكن القول إنها اليوم قد‍ فشلت تمامًا ولم تتمكن من تحقيق الاندماج.

كيف يمكن تحليل التوترات ‌بين‌ قيم الجمهورية ​ومطالب الهوية للأقليات الثقافية في فرنسا؟
سياسة اللائكية كانت مرارًا ⁢محل جدل؛ ما تأثير هذا المفهوم على العلاقات بين‍ الثقافات والسياسة​ الثقافية؟ وهل استطاع أن يكون أداة للتعايش متعدد الثقافات؟ وأين موقع المسلمين من هذا المنظور؟

المسلمون ‍هم أكبر أقلية دينية في فرنسا، ولهم تاريخ مرتبط باستعمار أراضي…جرح سلمان ​النشين لم يندمل أبدًا. ما ​زال مسلمو الجزائر وتونس ‌والمغرب يرون فرنسا دولة حاربتهم وارتكبت جرائم بحقهم. وقد عمّقت ​سياسة الاندماج الثقافي (الإنتغراسيون) هذا​ الشرخ التاريخي.

يقول “آلان⁢ تورن” إن‍ الفرنسيين ينظرون إلى المسلمين والأجانب ⁢الآخرين نظرة ⁢استعلائية، تظهر حتى عند مدح مهاجر بعبارة ​مثل⁣ “أنت تتحدث الفرنسية‌ بلا لكنة”، وكأن⁢ شرط الجودة هو⁤ التشبه بالفرنسيين. هذا المنظور العرقي المركزي متأصل في فرنسا، وقد‍ أكد⁤ عليه مفكرون مثل تورن وبورديو.

رغم الجهود منذ عهد ساركوزي لإنشاء مؤسسات دينية مستقلة​ مثل المجلس⁣ الأعلى للمسلمين، ⁢لم يتقلص هذا الشرخ. وفي الانتخابات⁢ الأخيرة، ظهر حتى مصطلح ‌”تصويت المسلمين”، ⁣وهو مفهوم يتعارض مع سياسات الاندماج التي لا تقبل​ التصويت ⁤على أساس ديني أو عرقي.إضافة إلى ذلك، فإن نهج الحكومة الفرنسية…في سياق حرب غزة ودعم سياسات حكومة نتنياهو، زاد الموقف من الأزمة⁢ تأجيجًا للتوتر وخلق شرخًا لن يسهل⁤ رأبه.⁤ المسلمون لن ينسوا تغاضي​ باريس عن هذه العنف، مما يزيد الهوة بينهم والجمهورية يومًا بعد يوم.‌

بنظرة مقارنة: كيف تعامل المجتمع ‌العلماني⁤ الفرنسي مع عودة⁢ الدين أو الروحانيات (سواءً في صورة الإسلام أو الروحانيات ⁢الغربية الحديثة)؟ هل نواجه نوعًا⁣ من ⁢”العلمانية الدفاعية”؟

فيما يتعلق بالعقلانية والثقافة الغربية وإرث التنوير، لا أعتمد فقط على أقوالي بل أستشهد بأفكار المفكر الفرنسي “آلن توران”. يؤكد توران في ⁣أعماله – بما فيها نقد الحداثة والدفاع عنها وعن المجتمع الحديث – أن‍ الثقافة ⁤الأوروبية⁢ تقوم على ركيزتين: العلمانية والحداثة.من⁤ وجهة⁤ نظره، لا تحمل أي منهما عداءً جوهريًا للدين أو العرق؛ ⁢لكن الأوروبيين تحت ‌تأثير⁢ النظرة العرقية المركزية يرتدون ⁣عباءة​ غربية…المفاهيم متعددة. ​البعض يرى الحداثة كمسار يتجدد باستمرار، بينما يرفض آخرون هذا الطريق ويختارون مسارات أخرى. ‌وفقًا ‍لتورن، فإن الحداثة ليست مفهومًا ثابتًا يقبل مسارات متعددة، تمامًا كما حافظت اليابان على⁣ قيمها ‍رغم حداثتها. ونحن⁢ في إيران أيضًا يمكننا أن نكون⁤ “جُددًا” مع ‍الحفاظ على تقاليدنا وقيمنا الأصيلة.

يطرح تورن تمييزًا بين “الحداثة”​ و”التحديث”: فالتحديث هو‍ الطريق المؤدي إلى الحداثة، وقد يأخذ أشكالاً متنوعة.لكن الأوروبيين يعتبرون الاثنين شيئًا واحدًا ويدعون جميع الدول‍ لاتباع نهجهم – وهو⁢ خطأ يشير إليه تورن.​ نفس المنطق ينطبق على “العلمانية”: فالعلمانية كمبدأ قانوني يمكنها التعامل مع الاختلافات الدينية،⁢ لكن ‍ما يسمى بـ”العلموية”⁣ هي⁤ عملية ⁣تحويل العلمانية إلى أيديولوجية بديلة لا ⁣تتسامح مع أي⁢ منافس.

نحن الآن⁤ في القرن…الحياة⁢ تتغير جذرياً: عصر‌ الهيمنة الغربية ‌ينتهي ويشرق عالم الشرق.‌ بينما نتحدث عن ⁤”تجربة العيش” في دول مثل إيران والسعودية والصين وكوريا، نشهد إبداعات وابتكارات، في حين أن أوروبا تتعلق⁤ أكثر ‍من ⁣أي ‍شيء بماضيها.قوى ​مثل الصين والهند تتصاعد، بينما الأفكار الأنثوسنتريك الغربية​ في تراجع. كل هذا يظهر أن العلمانية‍ الدفاعية⁤ لفرنسا ⁣تحاول حماية قراءة ​خاصة للعلمانية، قراءة أصبحت​ تواجه​ تحديات متزايدة يومًا بعد يوم.

هل لديكم تجارب معيشية في كلا الاتجاهين؟ هل يمكن ​تحليل الثقافة الغربية اليوم على أسس⁤ عقلانية تنويرية أم ‍أننا أمام مفارقة ‌جديدة؟

العقلانية وجهة أخرى‌ للتطور. آلان تورين يؤكد ⁢على ⁤هذه النقطة: ‍القرون الأخيرة والعشرون كانت ‍عصر الصناعة والعقلانية؛ ‍زمن كانت المنفعة والربح ‌الاقتصادي هي الحرف⁢ الأول…في ظل ظروف معينة، ‌كان العقلانية تعني ​الحسابية ‍والابتعاد⁤ عن⁤ المشاعر والميول العاطفية. من هذا المنظور،⁤ كان الإنسان العقلاني هو الذي يضع في اعتباره⁤ المصلحة المادية عند ‌اتخاذ⁣ القرارات الاقتصادية ويتصرف بناءً عليها.⁤ وكانت النتيجة قرونًا من ‌إهمال المشاعر والعواطف، حيث أُطلق على⁤ “العقلانية” تسمية جعلت الدول ⁣التي ‌تدور حول محور المشاعر تُوصف ‍بأنها “متخلفة”.

في تحليل المجتمعات المعاصرة، يؤكد الخبراء أننا نعيش اليوم في مجتمعات تقوم على العلاقات الحياتية. هذه مجتمعات ظهر فيها المتظاهرون الفعليون وحتى‌ السلطات ⁣والهياكل التنظيمية أصبحت موضع تساؤل.إذا كانت القرون الماضية قرونًا من السلطات غير المرئية والتشكيلات البدائية، فإن القرن الحالي هو عصر “تحرير الفرد” من قيود تلك الهياكل. لكن هذا الفرد ليس فردًا أنانيًا​ ومنغلقًا على ذاته،⁣ بل هو فرد متظاهر ومبدع.

في عالم اليوم، حلّت علاقة​ الإنسان بالجسور والقوة والآلات محل ‍العلاقة⁢ بين الإنسان وأخيه الإنسان. السبب الرئيسي لهذا ‍الارتباط⁤ الجديد هو المشاعر والحب​ والعشق.القرن الحادي والعشرون هو قرن عودة⁤ المشاعر‍ والحب ⁣إلى صميم ⁤الحياة والفعل الإنساني.

مصادر الخبر: ©⁣ وكالة ويبانقاه للأنباء, وكالة مهر للأنباء,
قناة وكالة ويبنقاه على تلغرام
زر الذهاب إلى الأعلى