الوضع السياسي في السودان من الجذور التاريخية إلى المأزق الحالي

وكالة مهر للأنباء، فريق الشؤون الدولية: السودان أرض تقع في قلب أفريقيا بشعوب متنوعة وتاريخ مليء بالثورات والانقلابات والحروب الأهلية. نادراً ما شهد هذا البلد استقراراً سياسياً منذ استقلاله عام 1956. من ثورة ديسمبر 2018 التي أدت إلى سقوط عمر البشير في أبريل 2019 وحتى الحرب الأهلية في أبريل 2023، تحول السودان من أمل بالحرية إلى دوامة صراعات دامية. لفهم الأزمة الراهنة بشكل أفضل، يجب مراجعة الجذور التاريخية والتطورات السياسية والقوى المؤثرة داخلياً وخارجياً.
العصر السابق للاستعمار والاستعمار؛ تشكيل هوية سياسية
قبل هيمنة بريطانيا ومصر عام 1898، لم يكن للسودان هيكل سياسي موحد وكانت المجتمعات المحلية تحكم وفق القبائل والمذاهب الدينية. مع انتشار التعليم الحديث في ثلاثينيات القرن العشرين تشكلت أولى حركات النخبة السياسية. انعقد “مؤتمر الخريجين” عام 1938 وكان نقطة انطلاق للحركات السياسية التالية:
1.تيار المطالبة بالاستقلال تحت شعار “السودان للسودانيين”، بقيادة حزب الأمة ذو الخلفية الدينية.
2. تيار الوحدة بقيادة الحزب الوطني الاتحادي الذي طالب بالاتحاد مع مصر.
3. التيارات الأيديولوجية مثل الإسلاميين والشيوعيين والعرب القوميين.
في عهد الاستعمار تأسس الجيش الحديث وتركيز السلطة كان بمركز العاصمة مما عمّق الفجوة بين المركز والهوامش لا سيما دارفور والجنوب، وهذه الثنائية ما تزال قائمة اليوم بين الجيش النظامي (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF).
من الاستقلال حتى الستينيات؛ تحالفات غير مستقرة
حصل السودان على استقلاله عام 1956 لكن افتقاد الخبرة الحُكْمِيّة والتوترات العِرقِيّة والفئوية أنهكَت الاستقرار منذ البداية, وتناولت السلطتين حزبَيان رئيسيان إلّا أن الحرب الأهلية الجنوبية اندلعت عام نشنت حرب أهلية جنوبًا منذ العام قبل الاستقلال واستمرت لاحقًا., أسقطت ثورة أكتوبر الشعبية سنة1964 أول حكم عسكري وأشاعت أملاً جديداً بالديمقراطية إلا أن الصراعات الحزبية والأيدولوجيّـة اختزلتها سريعًا ، فظهرت حركات إسلاموية وأزيل الحزب الشيوعي خلال تلك الفترة ممهداً الطريق لانقلابات قادمة .
حقبة جعفر نميري (۱۹۸۵-۱۹۶۹ ) ؛ من الثورة الى السقوط
شكل انقلاب جعفر نميري في العام1969 مسيرة جديدة لحكم عسكري واسمي ايديلوجياً إذ دعمته الفصائل اليسارية والقومية العربية ولكنه اقترب شيئاً فشيئًا برُغم ذلك الى الاسلاميين.وقع نميري اتفاق السلام سنة1972 وأوقف الحرب جنوبا لعقد لكنه أعاد إشعالها مطلع الثمانينات بتنفيذ قانون الشريعة وإلغاء الاتفاق , وفي سنة1985 أدى الغضب الشعبي والعجز الاقتصادي لسقوطه. تُبرز تجربته أن التمسك بالأيديولوجيا مع تجاهل التنوع العرقي والديني يُفضي الى عدم استقرار سوداني مستمر.<STRONG ثورة الإسلاميين وعهد عمر البشير2000 -1989
سيطر الجيش بدعم الاسلاميين بقيادة حسن الترابي على الحكم عبر انقلاب ٍفي سنة1989 وحافظ عمر البشير على سلطته نحو ثلاثة عقود. بدأ النظام بشعار تطبيق الشريعة و’ اصلاح الأمة’ لكنه تحول لقمع سياسي وفساد وحروب متواصلة .
ظهر خلال حكم بشتير ثلاثة أزمات كبرى:
1). حرب الجنوب السوداني التي انتهت أخيراً185 – ونالت الجنوب الاستقلال2011 .
2). صراع دارفور الذي انطلق2003 بانتفاضة الجماعات المحلية ضد التمييز المركزي وتحول لظهور المليشيات الجنجويد وقوات الدعم السريع فيما بعد.
3). الانهيار الاقتصادي والاحتجاجات المتصاعدة منذ2013 والتي أدّت لسقوط النظام.عمل بشير عبر الاعتماد على الأجهزة الأمنية والقبائل العربية لإدارة البلاد ولكن مع انفصال الجنوب توقفت إيرادات النفط وتفاقم الوضع الاقتصادي, وفي نهاية المطاف أسقطته احتجاجات شعب واسعة واتحاد القوى المدنية بأبريل2019.
دورة الانتقال (۲۰۱۹ – ۲۰۲۱) ؛ آمال ديمقراطية وتحدّيات بنيوية
بعد سقوط البشير تولى المجلس العسكري برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان السلطة لكن تحت ضغط شعبي وقع اتفاقاً مع القوى المدنية المسماة” قوى الحرية والتغيير” لتشكيل مجلس سيادي مختلط مدني وعسكري ورئاسة الوزارة لعبد الله حمدوك بهدف إجراء انتخابات حرة وإصلاح الجيش وتحقيق السلام مع المتمردين, كما تم توقيع اتفاق سلام جوبا بأكتوبر2020 مع جماعات دارفور ومناطق أخرى.
إلا أنّ تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين والمتمردين خلق منافسات جديدة عوض استعادة الاستقرار وجعل الأداء الحكومي شللاً بسبب الفساد والخلافات الداخلية وضغوط الجماعات المسلحة.
الانقلاب العسكري2021 وعودة الحكم العسكري
في أكتوبر2021 قام البرهان وحميدتي قائد قوات الدعم السريع بانقلاب ضد حكومة حمدوك الذي تم اعتقاله ثم أُطلق سراحه لكنها ظلت حكومة غير موثوقة للشعب; حاولت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي الوساطة لكن المحادثات فشلت وفي ديسمبر2022 وقع اتفاق إطار سياسي جديد يقضي بمسار العودة للديمقراطية إلا أن الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش أدى لصدام مباشر بين الطرفين .
الحرب الأهلية2023 حتى2025
اندلع القتال إبريل٢٠٢٣ بين جيش السودان وآليات قوات الدعم السريع داخل الخرطوم وامتد لبقية أنحاء البلاد حيث يملك الجيش قرابة130 ألف جندي ودعم جوي ويتحكم شمال وغرب ، بينما تتمتع قوات حميدتي ذات القوة المرنة بنحو100 ألف عنصر بالنفوذ ضمن الخرطوم ودارفور وكردفان.
أدت المواجهة لتقسيم السودان لنصفَـينه إذ تتواجد الحكومة الرسمية بمدينة ميناء بورسودان تحت إدارة القوات الحكومية بينما أيادية محلية تابعة لقوات حميدتي تدير المناطق الغربية.
وفي هذا الإطار توزعت مواقف الأحزاب والقوى المدنية كالآتي:
1) بدأت قوى الحرية والتغيير بالصمت ثم طالبت لاحقا باستئناف العملية السياسية.
2) دعمت الأحزاب الإسلامية والفصائل التقليدية القوات الحكومية.
3) اتخذ متمردو دارفور موقفاً وسطياً لكنه أدانوا جرائم قوات الدعم السريع.
4) تعتبر حركة الشباب ولجان المقاومة كلا الطرفين مسؤولَــَــن عن تدمير الوطن.
بالمحصلة المستقبل السياسي السوداني يرتبط بسيناريوهین رئيسیین : الأول انتصار المؤسسة العسكرية وإرساء استقرار نسبي في الخرطوم قد يعزز الأمن مؤقتا لكن يؤجل تأسيس حكم شعبي ؛ والثاني تفكك الدولة وتجزئة النفوذ بحسب نموذج ليبيا مما يشكل أخطر الاحتمالات.
