واشنطن تلوح بتقليص دعمها الدفاعي وتطالب أوروبا بالاعتماد على الذات عسكريًا بحلول عام 2027

وبحسب المكتب الدولي لوكالة ويبانقاه الإخبارية، تواجه أوروبا تحديات جمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري في ظل المهلة التي حددتها واشنطن، ما يثير تساؤلات حول القدرة الفعلية للقارة على الدفاع عن نفسها دون المظلة الأمنية الأمريكية.
وفي الخامس من ديسمبر 2025، شهدت واشنطن اجتماعًا هامًا أبلغ فيه مسؤولون من البنتاغون دبلوماسيين أوروبيين بضرورة تولي أوروبا المسؤولية عن القدرات الدفاعية التقليدية للناتو، من جمع المعلومات العسكرية إلى أنظمة الصواريخ، وذلك في غضون عامين.
ولم يكن موضوع الاستقلال والاكتفاء الذاتي العسكري لأوروبا عن الولايات المتحدة وليد اللحظة، إذ دعا قادة أوروبيون، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، منذ سنوات إلى ضرورة تحقيق “استقلال استراتيجي أوروبي”.
في سبتمبر 2017، طرح ماكرون في خطاب تاريخي ألقاه في جامعة السوربون مفهوم السيادة الأوروبية والقدرة التشغيلية المستقلة لأوروبا، ودعا إلى تشكيل جيش أوروبي مشترك، مؤكدًا أن أوروبا لا يمكنها أن تعهد بأمنها إلى الولايات المتحدة إلى الأبد.
واستند تقرير لرويترز إلى مصادر مطلعة، وكشف أن مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية أعربوا عن عدم رضاهم عن التقدم الذي أحرزته أوروبا في تعزيز قدراتها الدفاعية منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في عام 2022.
ورغم الزيادة الكبيرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث ارتفعت ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من 218 مليار يورو في عام 2021 إلى 326 مليار يورو في عام 2024، أي بزيادة قدرها 49%، إلا أن واشنطن لا تعتبر هذه الزيادات كافية.
وفي قمة الناتو التي عقدت في لاهاي في يونيو 2025، تعهدت الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، على أن يخصص 3.5% منها للإنفاق الدفاعي الرئيسي و1.5% للبنية التحتية الدفاعية والأمن السيبراني والقضايا ذات الصلة.
إلا أن هذه التناقضات تكشف أن السياسة الأمريكية تجاه أوروبا لا تزال متقلبة، بالنظر إلى أن ترامب انتقد الحلفاء الأوروبيين مرارًا وتكرارًا خلال حملته الانتخابية لعام 2024، بل إنه قال إنه سيشجع فلاديمير بوتين على مهاجمة دول الناتو التي لا تدفع حصتها العادلة.
وبالنظر إلى التحديات التي تواجه الاكتفاء الذاتي العسكري لأوروبا، يتضح أن القارة العجوز تفتقر إلى القدرات الأساسية في المجالات الحيوية التي اعتمدت فيها على الولايات المتحدة لعقود.
ويعتبر الخبراء أن القدرات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع القائمة على الفضاء والأقمار الصناعية هي المجال الذي تتباعد فيه أوروبا عن الولايات المتحدة.
وبحسب بيانات اتحاد العلماء المعنيين في مايو 2023، تمتلك الولايات المتحدة 246 قمرًا صناعيًا عسكريًا، بينما يبلغ إجمالي الأقمار الصناعية العسكرية للدول الأوروبية الأعضاء في الناتو 49 قمرًا صناعيًا فقط، وتتصدر فرنسا القائمة بـ 15 قمرًا صناعيًا.
ويشير رافائيل لاس من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى أنه “بدون تحسين كبير لقدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع القائمة على الفضاء، ستواجه جهود تطوير القدرات الأوروبية الأخرى، بما في ذلك نهج الضربة بعيدة المدى، تحديات كبيرة”.
كما أن الدفاع الجوي والصاروخي يمثل مجالًا حاسمًا آخر، إذ تفتقر أوروبا إلى أنظمة الحرب الإلكترونية المتقدمة لإسقاط الدفاعات الجوية للعدو.
وفي مجال القيادة والسيطرة، لا تزال البنية التحتية الأوروبية تعتمد على الأفراد والأنظمة الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك، لا تملك أوروبا ما يكفي من القدرة على التزود بالوقود جوًا والنقل الجوي الاستراتيجي، ولا تزال قدرة الناتو على الانتشار السريع تعتمد على الولايات المتحدة.
وحتى في حالة تعزيز القدرات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع، سيظل التنسيق العملياتي بين الجيوش الأوروبية صعبًا، لأن الولايات المتحدة تضمن اليوم قابلية التشغيل البيني بين قوات الناتو من خلال دمج الأفراد والأنظمة وهيكل القيادة.
وإذا أراد الأوروبيون السعي جديًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري، فهناك العديد من العقبات الهيكلية التي تجعل الوصول إلى الموعد النهائي لعام 2027 أمرًا مستحيلًا تقريبًا.
ويتمثل التحدي الأول في التأخيرات الإنتاجية في طلبات المعدات العسكرية، إذ يستغرق تسليم بعض الأسلحة وأنظمة الدفاع الأمريكية سنوات، فعلى سبيل المثال، إذا طلبت الدول الأوروبية اليوم أنظمة الدفاع الجوي باتريوت أو طائرات مقاتلة من طراز F-35، فقد يستغرق تسليمها حتى ثلاثينيات القرن الحالي.
ويكمن العائق الثاني في محدودية قدرة الصناعة الدفاعية الأوروبية، وبحسب تقرير صادر عن شركة أوليفر وايمان الاستشارية في أغسطس 2025، سيحتاج القطاع الدفاعي الأوروبي إلى أكثر من 250 ألف مهندس وفني ماهر إضافي على مدى السنوات الخمس المقبلة لتلبية الطلب الحالي والمتزايد في السوق، وهو رقم يمثل أكثر من 25% من إجمالي القوى العاملة الحالية في هذا القطاع.
ويتمثل التحدي الثالث في تجزئة الصناعة الدفاعية الأوروبية، فخلافًا للولايات المتحدة التي ركزت صناعتها الدفاعية على عدد قليل من الشركات الكبرى المتكاملة، تمتلك أوروبا العديد من الجهات الفاعلة الوطنية التي تعمل بشكل أساسي في أسواقها المحلية وتنتج كميات صغيرة نسبيًا.
وتواجه البرامج الأوروبية المشتركة صعوبات جمة، مثل البرامج المشتركة بين فرنسا وألمانيا لتطوير مقاتلة من الجيل السادس (SCAF) ودبابة قتال (MGCS)، بينما تعمل إيطاليا وبريطانيا واليابان على برنامج جوي قتالي عالمي (GCAP) لبناء مقاتلة شبح أخرى، ما يزيد من تشتيت الموارد المحدودة.
ويكمن العائق الرابع في القيود المالية، فحتى مع زيادة الإنفاق الدفاعي، تعمل العديد من الدول الأوروبية في حيز مالي محدود، إذ إن زيادة ميزانية الدفاع إلى 3.5% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي يعني تخفيضات كبيرة في قطاعات أخرى من الميزانية العامة.
ويتمثل التحدي الخامس في الافتقار إلى التنسيق السياسي على المستوى الأوروبي، ففي حين أن دول أوروبا الشرقية مثل بولندا ودول البلطيق التي تشعر بتهديد مباشر أكبر من روسيا، زادت ميزانياتها الدفاعية بسرعة، لم تتبع دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا هذا الاتجاه.
وختامًا، فإن الاكتفاء الذاتي العسكري لأوروبا عن الولايات المتحدة ليس هدفًا يمكن تحقيقه على المدى القصير، بل هو مشروع طويل الأجل ذو عوائق هيكلية وتكنولوجية وصناعية وسياسية عميقة، وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي في السنوات الأخيرة، فإن الثغرات الأساسية في مجالات مثل المعلومات العسكرية القائمة على الفضاء والدفاع الجوي المتقدم والقيادة والسيطرة واللوجستيات الاستراتيجية تشير إلى أن اعتماد أوروبا على أمريكا سيستمر على الأقل في العقد المقبل.
لذلك، فإن الموعد النهائي لعام 2027 الذي حدده البنتاغون هو أداة للضغط السياسي وتسريع العمليات أكثر من كونه هدفًا عمليًا، وحتى خطط الاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى عام 2030 تعتبر طموحة للغاية، وفي النهاية، فإن الاستقلال العسكري لأوروبا هو عملية جيلية تتطلب الوقت والاستثمار المستدام والإصلاحات الصناعية العميقة والتنسيق السياسي الواسع النطاق، وحتى يتحقق ذلك، ستظل المظلة الأمنية الأمريكية تلعب دورًا حاسمًا في أمن هذه القارة.
