قناة وكالة ويبنقاه على تلغرام

ما الذي يبحث عنه ترامب في غرينلاند؟

أعادت واشنطن اسم غرينلاند إلى صدارة أجندة سياستها الخارجية بخطاب واستراتيجيات تذكر بمنطق التوسع في القرن التاسع عشر، مما أثار تحذيرات في أوروبا والنظام الدولي.

وبحسب المكتب الدولي لوكالة ويبانقاه الإخبارية، فإن عودة غرينلاند إلى الواجهة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بخطاب يذكر بمنطق التوسع في القرن التاسع عشر، أثار تحذيرات جدية في أوروبا والنظام الدولي. قرار دونالد ترامب بإحياء مشروعه القديم للسيطرة على هذه الجزيرة القطبية ليس مجرد فكرة شخصية أو مناورة إعلامية، بل جزء من رؤية بنيوية للعالم ترى الجغرافيا والسيادة والقانون الدولي خاضعة لمصالح القوى الكبرى. رد فعل الدنمارك الحاد وقلق الدول الأوروبية الأخرى يظهران أن ملف غرينلاند يتحول بسرعة إلى أزمة دبلوماسية عابرة للأطلسي.

غرينلاند، التي كانت تعتبر حتى عقود قليلة مضت منطقة نائية ومتجمدة وقليلة السكان، تحولت اليوم إلى واحدة من النقاط الجيوسياسية الرئيسية في القرن الحادي والعشرين بسبب التغيرات المناخية وذوبان الجليد القطبي والتنافس العالمي على الموارد الطبيعية. تمتلك غرينلاند اليوم طرقًا جديدة للملاحة، بالإضافة إلى احتياطيات كبيرة من العناصر النادرة والمعادن الاستراتيجية والموارد المعدنية الحيوية للصناعات المتقدمة.

في هذا السياق، فإن تدخل الولايات المتحدة المباشر في ملف غرينلاند، بخطاب يستحضر مفاهيم “الملكية” و”الضم”، يثير حساسيات كبيرة. بالنسبة لأوروبا، غرينلاند ليست مجرد إقليم، بل هي جزء من النظام القانوني والسياسي للقارة، نظام يقوم على احترام السيادة الوطنية وعدم تغيير الحدود عبر الضغوط والتهديدات.

قرار ترامب بتعيين “ممثل خاص” لغرينلاند يعد إجراءً رمزيًا لكنه ذو دلالة كبيرة. هذا الإجراء، الذي يتم عادةً في المناطق المأزومة أو الدول ذات العلاقات المعقدة، وليس في إقليم يخضع رسميًا لحكم دولة حليفة للولايات المتحدة، أدى إلى وصف الدنمارك له بأنه تدخل غير مقبول. تصريحات الممثل العلنية حول “محاولة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة” أزالت أي شكوك وأظهرت أن هدف واشنطن يتجاوز التعاون الاقتصادي أو الأمني.

رد فعل الدنمارك كان سريعًا وحازمًا، حيث أكدت أن “غرينلاند ليست للبيع”، وسعت لرسم خط واضح بين التعاون المشروع والتدخل غير القانوني. على نطاق أوسع، يعكس هذا الموقف قلق أوروبا العميق من عودة السياسات الأحادية للولايات المتحدة، والتي تسببت في توترات كبيرة في العلاقات عبر الأطلسي خلال الفترة الأولى لرئاسة ترامب.

بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن القضية ليست فقط غرينلاند، بل مبدأ احترام السيادة الإقليمية والقواعد الدولية. إذا تم ممارسة مثل هذا الضغط على الدنمارك اليوم، فقد يطالغد دولًا أوروبية أخرى أو مناطق حساسة في العالم. وبالتالي، أصبح ملف غرينلاند رمزًا لمقاومة أوروبا لمنطق القوة الأمريكي.

يحلل الخبراء السياسيون سياسة ترامب تجاه غرينلاند في إطار إحياء “عقيدة مونرو”، التي تشكلت في القرن التاسع عشر لتبرير الهيمنة الأمريكية على المناطق المحيطة بها. رغم اختلاف العالم اليوم جذريًا عن ذلك العصر، إلا أن العقلية الكامنة وراء هذه السياسة لا تزال تقوم على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ. في هذه الرؤية، تُعرّف المناطق الاستراتيجية ليس بناءً على حقوق الشعوب، بل على قيمتها الجيوسياسية والاقتصادية.

على الرغم من محاولات المسؤولين الأمريكيين تبرير تحركاتهم في إطار التعاون الأمني أو الاقتصادي، فإن الحقيقة هي أن الموارد الطبيعية في غرينلاند تلعب دورًا حاسمًا في هذه المعادلة. العناصر النادرة والمعادن الاستراتيجية في الجزيرة حيوية للصناعات المتقدمة والطاقات الجديدة وحتى القطاع العسكري. في عالم يشهد تنافسًا محمومًا على سلاسل توريد هذه الموارد، فإن الوصول المباشر إلى مثل هذه الاحتياطيات يمثل ميزة استراتيجية كبيرة.

من وجهة نظر أوروبية، فإن هذه هي النقطة التي تتحول فيها سياسة الولايات المتحدة من التعاون المشروع إلى الضغط الجيوسياسي. محاولة السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على موارد إقليم دون مراعاة الإرادة السياسية للحكومة المحلية تمثل انتهاكًا واضحًا للمبادئ الدولية المقبولة.

كشف ملف غرينلاند عن شروخ أعمق في العلاقات الأمريكية الأوروبية. هذه الأزمة تظهر أنه حتى بين الحلفاء التقليديين، لا يوجد فهم مشترك لمفاهيم مثل السيادة والأمن والمصالح. بالنسبة لأوروبا، فإن الأمن الجماعي يعني احترام القوانين الدولية، في حين أن نهج ترامب يركز على القوة أكثر من الحقوق. استمرار هذا الاتجاه قد يكون له عواقب تتجاوز الخلاف الدبلوماسي، من تآكل الثقة المتبادلة إلى زيادة رغبة أوروبا في الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة. بمعنى آخر، قد تصبح غرينلاند نقطة تحول في إعادة تعريف العلاقات عبر الأطلسي.

ملف غرينلاند ليس مجرد قضية إقليمية، بل هو رمز واضح لعودة السياسات الأحادية للولايات المتحدة والتحديات التي تواجه النظام الدولي في القرن الحادي والعشرين. إجراءات ترامب لإحياء مشروعه القديم للسيطرة على الجزيرة وتعيين ممثل خاص ليست مجرد لعبة سياسية عابرة، بل تعبير عن رؤية توسعية ترى سيادة الدول والقانون الدولي ومبادئ التعاون متعددة الأطراف خاضعة لمصالح القوى الكبرى. مثل هذه السياسة قد تحقق أهدافًا اقتصادية وأمنية لواشنطن على المدى القصير، لكنها ستكون لها آثار مدمرة على ثقة الحلفاء وتماسك أوروبا واستقرار العلاقات عبر الأطلسي على المدى البعيد.

هذه الأزمة تظهر أن الولايات المتحدة تسعى إلى مزيج من الهيمنة الاقتصادية والوصول إلى الموارد الاستراتيجية والنفوذ السياسي خارج الأطر المعتادة. الموارد المعدنية والعناصر النادرة في غرينلاند، التي تتمتع بقيمة استراتيجية عالية للصناعات المتقدمة والتقنيات الجديدة، هي المحرك الخفي لهذه الضغوط. نهج ترامب، الذي يحاول تبرير التدخل المباشر أو غير المباشر في أراضي أخرى تحت غطاء “التعاون”، يتجاوز في الواقع المبادئ المقبولة للسيادة الوطنية وعدم التدخل ويرسل رسالة واضحة إلى العالم: الولايات المتحدة مستعدة للتضحية حتى بحلفائها عندما تكون مصالحها في خطر.

الرد الحازم والموحد من الدنمارك والموقف القوي للاتحاد الأوروبي يعكسان وعي أوروبا بمخاطر مثل هذه السياسات. الأوروبيون، بتأكيدهم أن “غرينلاند ليست للبيع” وأن احترام القانون الدولي لا يجب أن يضحى به لمصالح استراتيجية، يسعون لرسم خط واضح بين التفاعل المشروع والتدخل غير القانوني.

 

©‌ وكالة ويبانقاه للأنباء, https://www.mehrnews.com
قناة وكالة ويبنقاه على تلغرام
زر الذهاب إلى الأعلى