إيران والعمارة الجيوسياسية الجديدة هل تمثل الممرات أداة ضغط أم تهديد
وكالة مهر للأنباء، فريق الشؤون الدولية، حسين شاه بري طَرئي: تُعد إيران معبراً قديماً للحضارات، وتقع حالياً في قلب تحولات جيوسياسية وجيواقتصادية ستشكل مصيرها للعقود القادمة. بروز ممرات نقل وطاقة ضخمة في أوراسيا حوّل الميزة الجغرافية لإيران إلى موقع استراتيجي معقد وثنائي الاتجاه؛ حيث يشكل من جهة فرصة تاريخية للخروج من العزلة الاقتصادية ولتصبح قطباً لوجستياً إقليمياً، ومن جهة أخرى تهديداً للإقصاء من خارطة التجارة العالمية إذا غُفل عن هذه المنافسة الكبرى. إن تحليل هذه الفرص والتهديدات يتطلب فهماً عميقاً للعبة الكبرى الجديدة التي تنشأ في جوار إيران.
في الشمال والشرق، يُعتبر الممر الدولي للنقل شمال-جنوب (INSTC) بقيادة روسيا وإيران والهند، نظريًا أقصر وأوفر الطرق للربط بين أوروبا والمحيط الهندي. بالنسبة لإيران فإن هذا الممر ليس مجرد طريق عبور بل أداة استراتيجية لتقليل الاعتماد على النفط وخلق فرص عمل واسعة وزيادة النفوذ الدبلوماسي. القيمة التحليلية لهذا الممر تكمن في أنه ولأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ينظم التقارب الاستراتيجي بين موسكو ونيودلهي حول محور طهران وينقل إيران من الهامش إلى مركز شراكة اقتصادية كبيرة أوراسية. ومع ذلك فإن الفجوة بين الإمكانيات والواقع لهذا المشروع الكبير تمثل التهديد الأول: تأخر التقدم بسبب العقبات المالية الناجمة عن العقوبات التي لم تقتصر على تقييد الاستثمار الأجنبي فقط بل أجّلت مشاركة الشركات الدولية اللوجستية والتأمينية التي تعد قاعدة نجاح أي ممر عبور. هذه النقطة الضعيفة الداخلية تتفاقم بالتزامن مع تحركات منافسين لا يقفون مكتوفي الأيدي.
المنافسون الاستراتيجيون لإيران يستغلون هذه الثغرة ببراعة.يمر ممر الشرق-غرب ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية بشكل أساسي عبر الطريق الشمالي مروراً بآسيا الوسطى والقوقاز.تستثمر بكين مليارات الدولارات لتطوير بنى تحتية في دول مثل كازاخستان وأوزبكستان وجمهورية أذربيجان مما يحرف تدفق التجارة عمليًا بعيداً عن إيران ويحول هذا الممر إلى منافس استراتيجي له تأثير جيوسياسي بالغ يهدف إلى تقليل الاعتماد على الطريق الإيراني وتهميش دوره في المعادلات الإقليمية. نتائج هذا الانحراف لا تقف عند فقدان الإيرادات فحسب بل تمتد لتراجع تدريجي لنفوذ إيران السياسي لدى الدول المجاورة وهامشيتها داخل المشاريع الإقليمية الكبرى.
امتدت ساحة صراع الممرات أيضاً إلى قطاع الطاقة والموانئ الاستراتيجية؛ ففي الجنوب يشكل ميناء تشابهار فرصة ذهبية لإيران ليكون ليس فقط قطباً تجارياً ولكن أداة نفوذ جيوسياسي لترسيخ مكانتها في بحر عمان وتحقيق توازن أمام ميناء غواادر الباكستانيّ.نجاح تشابهار يمكن أن يحول إيران إلى بوابة لا غنى عنها لأفغانستان وآسيا الوسطى ويعيد تشكيل خريطة الطاقة الإقليمية بالكامل. لكن على الجانب الآخر هناك مشاريع طاقة مثل خط أنابيب TAPI (تركمانستان-أفغانستان-باكستان-الهند) المصممة لنقل الغاز للأسواق المزدهرة جنوباً دون المرور بأراضي إيران والتي تمثل تهديدًا واضحًا للإقصاء؛ إذ أنها تحرم إيران من عائدات ضخمة نتيجة عبور الطاقة وتضعف عقليتها الدبلوماسية والأمنية عبر تقليص اعتماد الجوار عليها بشكل منهجي؛ وهنا تظهر الأبعاد الأمنية للمسألة: الدولة المستبعدة من شبكات النقل والطاقة تدريجياً تُقصى أيضاً عن دوائر اتخاذ القرار الأمني والاقتصادي.
بالنظر إلى هذه الخريطة المعقدة تواجه إيران مفترق طرق حاسم؛ السيناريو الأول هو استثمار الإمكانات القصوى عبر دبلوماسية نشطة ومتعددة الأطراف ذكية تدير العقبات الداخلية والخارجية بشكل فعال وتعمل ما بعد العلاقات الثنائية نحو تشكيل اتحادات دولية بمشاركة فاعلين كبار مثل الصين والهند وروسيا لتقسيم تكاليف تطوير البنية التحتية وموازنة المصالح بالتساوي. وفي الوقت نفسه يجب على إيران تعزيز الشفافية الاقتصادية وتوفير بيئات قانونية جذابة لجذب الاستثمار الأجنبي نحو مشاريع رئيسة كاستكمال شبكة السكك الحديد بتشابِهَار - زاهدان – مشهد وربطها بشبكة آسيا الوسطى. وفي هذا السيناريو يمكن حتى اقتراح ربط ممر الصين شرق – غرب بموانئها لتحويل المنافسة إلى تعاون واستكمال متعدد الأطراف يؤدي لنهضة اقتصادية وتأمين قومي متزايد وتعزيز سمعتها الدولية.
أما السيناريو الثاني فهو الغفلة ونظيره هو استمرار العقوبات وعدم فعالية العمليات الداخلية وفقدان استراتيجية موحدة واضحة مما يؤدي لاستكمال مشاريع المنافسين وتحويل المسالك بعيداً عنها شيئًا فشيئًا حتى يتم إقصاؤها عمليًا من خرائط النقل والطاقة العالمية وبذلك تتعمق عزلة الاقتصاد الإيراني ويتضاءل نفوذ البلاد بإقليم الخليج الفارسی باستمرار ويتم تفويت فرصة تاريخيه نادرة بلا تعويض.
لذا فإن ممران ايران المحيطين لم يعدا موضوعا هامشيـّــا وإنما أصبحا شرايين حيوية للاقتصاد المستقبلي وتحقيق «إيران قوية» ترافقها عزيمة وطنـِـ(ٰــّــٔ قادرٌ / صفاء) ذكـاءِ ديپلماتيك عالي المستوى ؛ فهي اختبار لقدرة ايران على تجاوز تحديات الداخل وأداء دور فاعل بنظام جديد ناشئ لأوراسيا ، والزمن ينخفض لاقتناص فرص تحويل تهديداتها المحيطـِّ.. العظيم ، يبقى جواب ايران لهذا الاختبار يصنع مصير الاجيال المقبلة .